وقد لقى من الاقبال على شعره ، والاحتفال به ما لم يلقه شاعر قبله ، كما تيسر له ان...

وقد لقى من الاقبال على شعره ، والاحتفال به ما لم يلقه شاعر قبله ، كما تيسر له ان يكون شاعر البلاط العباسي حقبة من الزمن لم تتيسر لشاعر آخر ؛ فتغنى بأوصاف الخلفاء ورجالات الدولة ، وأشاد بأعمالهم ، ونادمهم في مجالسهم ، وخلد آثارهم ، ودافع عن حكمهم وسياستهم ، وسجل كل صغيرة وكبيرة لهم ، فكان ديوانه - بحق - سجلا ضخماً لفترة من أزهى الفترات العباسية في المجالات : السياسية والعلمية والادبية والحضارية من اتصل بهم من وغيرها ، أعرف جيدا ان في النصوص التي استشهد بها شيئا من التكرار ، تكرار المعاني والاوصاف التي كان الشاعر يقيم فيها قصيده ، ولكن البحتري كان ـ على الرغم من ذلك ـ بارعاً في تناول الموضوع وانتقاء اللفظ حتى ليخيل الى القارىء أن ليس هناك تكرار يدعو الى السأم والملل … لقد جهد البحتري - بحق عند اتصاله بخلفاء الدولة العباسية - ان يعصر ذهنه ، ويكد قريحته ، ويستنفد كل ما رزقه من مكنة أدبية ، وطاقة فنية
---------

١/٢
ولد ابو عبادة البحتري سنة ۲۰٨ هـ في الشمال الشرقي لبلاد الشام بين مدينة حلب والضفة الغربية لنهر الفرات بقرية من تلك القرى التي كانت تحيط بحلب الشهباء احاطة الأنجم الز هر ببدر التمام كما قال الصنوبري :

حلب بدر دجی
انجمها الزهر قراها

وهى قرية ( منبج ) التي كانت مركزا اقطاعيا لاحد سادات البيت العباسي عبد المالك بن صالح بن علي - فكانت بذلك تمثل حياة نعمة ورفاهية وبذخ تدنو بها من مظاهر الحياة الناعمة المترفة التى كانت تعمر قصور الخلافة. ببغداد فكان ذلك كله يلوح بقصور الخلافة في بغداد ويشوق اليها تلويحا وتشويقا أخذا بنفس البحتري وجعلا نظره من اول نشأته معلقا ببغداد وقصورها ، ثم تردد بين منبج قريته وحلب قصبة عمله فانبهر سعة المجتمع وقوة الحركة وضخامة العمران وتباين الطبقات واختلاف مظاهر العيش واصناف الناس تفتق بحلب واستوطنها وتفتحت على عمرانها بصيرته وانبست بجلبتها يقظته النفسية فتوجه نحو المظاهر المختلفة في الوان العيش وضروب البشر يتنقل بينها بملاحظه الدقيقة وحسه المرهف وحمي به وطيس الغليان الاجتماعي الذي كان يئن مدينة حلب اذا بسبب ما يلتهب حولها من نيران توقدها مميزاتها السياسية والاجتماعية وموقعها الجغرافي فقد كانت روح العصبية العباسية تتلاطم أمواجها من شرقي حلب فتصطرع با مواج العصبية الاموية المتكسرة في تراجعها على جبال لبنان وكانت روح الاسلام المتوثبة قد تقمضت عصبية الدولة العباسية بعد أن خلعت عصبية الدولة الاموية وتقدمت في اهابها الجديد تقفز فوق سلسلة جبال اللكام لتأخذ بحجزة السلطة البيزنطية التي ما انفكت تزاحمها على صهوة السيادة العالمية المطلقة .
واصدر الدكتور محمد صبري كتابه ( ابو عبادة البحتري ) بكلمة وجيزة ذكر فيها ان البحتري أكبر شعراء العربية على الاطلاق فهو في نظره أرقى الشعراء أسلوباً واقواهم حسا وأوسعهم أفقاً
لا ريب في ان الدكتور محمد صبري قد ذاق حلاوة شعر البحتري وأدرك كثيراً من محاسن هذا الشعر وأحاط بغير يسير من أسراره مثل بعد غوره و اتساع مذاهبه وصعوبة ورده وصدره وقوة مخيلته وحسبه الفصل الثالث من كتابه الذي تكلم فيه على تصوير البحتري لأن من أكبر صفات شعر البحتري وخصائصه قوة التصوير ولكن المؤلف الفاضل على الرغم من هذه الاحاطة الواسعة بشعر البحتري قد يزهد في بعض الأحوال في اشباع الكلام على خصائص البحتري ففي الفصل الأول تكلم على شخصية البحتري وقد يفتش القارئ عن خصائص هذه الشخصية ومواطنها ومظاهرها وطبائعها فلا يهتدي الأ الى قليل منها وفي الفصل الثالث تكلم الدكتور على التصوير في شعر البحتري ولا شك في ان اللغة أكبر ادوات هذا التصوير فيبحث القارئ عن خصائص هذه اللغة التي انقادت الى البحتري فلا يصل الى شيء منها مثل قدرته في التأليف بين الصفات والموصوفات ومثل مهارته في انتخاب الالفاظ التي تنفخ في الموصوفات روحاً ، واذا كان الكاتب قد دل على شيء من هذه اللغة ، فالذي دل عليه انما هو قليل ، وأقل من القليل .